سودانيون يروون تفاصيل مروعة عن أهوال الهرب إلى مصر
الموت عطشاً حصد أرواح الأطفال والمسنين ومشارح أسوان مكدسة بالجثث والصحراء ابتلعت أعداداً مهولة ورحلات الموت مستمرة على رغم التحذيرات
ملخص
على رغم تحفظ بعض من وصلوا إلى الأراضي المصرية عبر التهريب في التحدث لـ”اندبندنت عربية” بأسمائهم الحقيقية، لكنهم قدموا شهادات صادمة كشفوا فيها قصصاً مأسوية وحوادث قاسية ومؤلمة تجسدها مشاهدة عشرات الجثث، بعضها لأطفال مبعثرين في الصحراء، توفي أصحابها بسبب الحوادث أو تعطل شاحنات التهريب أو العطش وضربات الشمس.
يواجه مئات الفارين من ويلات الحرب المستمرة لأكثر من عام في السودان أخطاراً في رحلة فرارهم تحت قبضة شبكات تهريب البشر عبر الحدود السودانية المصرية، إذ تزايدت بصورة غير مسبوقة أعداد الوفيات، واستقبلت مشارح مستشفيات عشرات الجثامين لأشخاص لقوا حتفهم بسبب ضربات الشمس والعطش وحوادث مأسوية أثناء محاولة وصولهم إلى مصر، مطلع يونيو (حزيران) الجاري، منهم أطفال ونساء ومسنون وأيضاً شباب، فكيف بدأت هجرتهم غير الشرعية عبر التهريب على “طريق الموت” الصحراوي من البداية إلى النهاية؟
مشاهد متجددة من البؤس عند منطقة الكسارات على تخوم مدينة أسوان، المحطة الأخيرة حيث تتوقف شاحنات التهريب معلنة نهاية رحلة العذاب والموت، فمن نجا منها يحتضن جثامين أعزاء من الأمهات أو أبناء قضوا عطشاً في صحراء العتمور.
الصدمة تسيطر على الواصلين من هول ما عايشوه من أحداث وأهوال خلال الرحلة، وجوه كالحة لا تكاد تتبين ملامحهم من شدة الغبار عليها، أنفس جريحة ووجدان منكسر ودواخل مهترئة بالوجع.
من منطقة الكسارات في أطراف مدينة أسوان يستغل الناجون “التكاتك” ثلاثية العجلات لولوج المدينة في رحلة لا تخلو من الابتزاز والاستغلال لظروفهم البائسة.
رحلة الموت
بعد أيام يقضيها المسافرون في مدن الانطلاق في (وادي حلفا أو أبوحمد أو عطبرة أو كسلا أو حتى بورتسودان)، التي تمثل مسارات انطلاق رحلات التهريب من السودان إلى مصر، تبدأ رحلة الموت بالبحث عن مهرب محترف ذي سمعة جيدة، خوفاً من التعرض لعمليات الاحتيال والابتزاز التي سبق وتعرض لها مسافرون وجدوا أنفسهم وحيدين على الحدود.
تبدأ عملية التهريب في رحلة برية شاقة قد تستغرق ما بين يومين وثلاثة أيام لكنها قد تطول إلى أكثر من خمسة أيام بحسب ظروف الطريق ونشاط دوريات حرس الحدود على الجانب المصري.
وتكلف الرحلة للفرد الواحد ما بين (300 و 400 ألف جنيه سوداني (300 و 400 دولار) بالسوق الموازية وهي أقل بقليل من قيمة تذاكر الطيران، على رغم المشقة والأخطار الهائلة على طريق وعر وقاحل وعلى ظهر شاحنات صغيرة (نصف نقل) مكشوفة يطلق عليها محلياً (بكاسي) ومن دون حماية حيث يتم ربط المسافرين بالحبال على جسم العربة لحمايتهم من السقوط أثناء الرحلة، ووسط أجواء صحراوية شديدة الحرارة مرتفعة القيظ وشمس حارقة.
غالباً ما يتحرك المهربون قبل العصر بقليل ولا يتوقفون إلا بعد منتصف الليل في استراحة عشوائية محددة وسط الجبال والصخور، أو عند منطقة تنقيب (قبقبة) الشهيرة حيث يتم فيها أحياناً استبدال الشاحنات بأخرى مجهزة بالوقود لبقية الرحلة حتى مشارف مدينة أسوان.
قسوة الطقس
ومع الارتفاع الكبير لدرجات الحرارة على نحو قياسي في الآونة الأخيرة، تصاعدت بصورة مأسوية حوادث الموت وسط السودانيين المخاطرين بالدخول إلى مصر عبر عمليات التهريب البري، وبخاصة وسط كبار السن والأطفال والمرضى.
وتضاعفت أعداد السودانيين اللاجئين إلى مصر بنحو خمسة أضعاف منذ اندلاع الحرب في السودان بين الجيش وقوات “الدعم السريع” في أبريل (نيسان) 2023، يمثلون أكثر من 52 في المئة من إجمال عدد اللاجئين المسجلين في مصر وفقاً لبيانات مفوضية اللاجئين في القاهرة.
وتقدر إحصاءات غير رسمية لمنظمات أهلية طوعية متابعة ومهتمة بأعداد السودانيين الذين دخلوا الأراضي المصرية بطرق غير شرعية من طريق التهريب، ما بين (1200 و 2000) شخص حتى الآن.
أحدث الفواجع
في أحدث فواجع التهريب استقبلت فيها مشارح مستشفيات على مدى يومين متتالين (7 إلى 8) يونيو الجاري، ما يقارب 51 جثماناً ممن لقوا حتفهم بسبب ضربات الشمس والعطش والحوادث المرورية في الطريق إلى الحدود المصرية، منهم أطفال ونساء وشباب ومسنون بما فيها حوادث مأسوية قضت فيها أسر كاملة تاهت في الصحراء وماتت بسبب العطش وضربات الشمس والحوادث وفق القنصلية السودانية في أسوان.
في الأسبوع ذاته شهدت أسوان مأساة هزت الجالية السودانية في المدينة بالعثور على جثامين أسرة سودانية كاملة تضم (الزوج والزوجة وأطفالهم الثلاثة) قضوا نحبهم بسبب التوهان والعطش. كما استنجد مواطنون بالسلطات المحلية في أسوان لمساعدة سودانيين قادمين عبر التهريب وجدوهم في حال سيئة، توفي أحدهم فور وصوله بينما احتاج الآخر إلى إسعاف وعناية طبية عاجلة.
وعلى رغم تكدس المشارح بالجثث فإن ناجين ممن تحدثوا إلينا أكدوا وجود مزيد من الجثث المجهولة الأخرى المنتشرة في الصحراء قضى أصحابها بالأسباب ذاتها.
تحذيرات رسمية
ومع تزايد حركة التهريب غير القانونية نبهت القنصلية السودانية العامة بأسوان السودانيين من أخطار الظاهرة المتمثلة في الحوادث المرورية والضياع في الصحراء والابتزاز والنهب من عصابات تجار البشر والتعرض للاعتقال والحبس.
وعلى رغم تحذيرات القنصلية المتكررة من العواقب غير المأمونة، فإن عمليات تهريب البشر ظلت مستمرة مع استمرار تردي الأوضاع الأمنية والمعيشية في السودان.
وأبدى الوزير المفوض لدى القنصلية السودانية في أسوان، محمد أحمد خليل أسفه للحوادث المفجعة التي يتعرض لها السودانيون في الصحراء والجبال وهم يسعون إلى الوصول للأراضي المصرية عبر التهريب، مؤكداً وصول عديد من جثامين الضحايا، الذين قضى معظمهم بسبب العطش أو ضربات الشمس نتيجة الارتفاع الشديد في درجات الحرارة إلى جانب الحوادث المرورية، إلى مستشفى مدينة أسوان.
أكد خليل في حديثه لـ”اندبندنت عربية” متابعة القنصلية لجميع الإجراءات مع السلطات المصرية منذ لحظة وقوع تلك الحوادث، مستغرباً في الوقت نفسه إصرار الناس على سلوك مثل تلك الطرق على رغم كل تلك الحوادث المفجعة وأخطار الموت في الصحراء.
لفت الدبلوماسي السوداني إلى أن عديداً من السودانيين درجوا على دخول الأراضي المصرية بطرق غير شرعية عبر التهريب وربما يعود بعضهم بالطريقة نفسها إما لعدم تمكنهم من تمديد إقاماتهم أو لأنهم دخلوا أساساً عبر التهريب ولذلك يؤثرون العودة بالطريق ذاته.
وتابع “ننصح الأهل في السودان بعدم التورط في هذه المغامرة والتريث قبل اتخاذ قرار السفر بالتهريب الذي قد يكلفهم حياتهم وحياة أسرهم وأطفالهم”.
إجراءات مصرية
من جانبها وإثر الحوادث المفجعة الأخيرة شرعت السلطات المصرية في تصعيد مكافحة الدخول غير الشرعي إلى البلاد، إلى جانب اتخاذ الإجراءات القانونية في مواجهة الداخلين إلى مصر بطرق غير شرعية.
وكشفت منصة الناطق الرسمي التابعة لوزارة الإعلام السودانية، عن وصول نحو (817) من السودانيين وبعض الجنسيات الأخرى لمخالفتهم القوانين بالدخول إلى مصر بطرق غير شرعية، عبر الحدود الجنوبية الممتدة بين البلدين.
وأكد مدير معبر أرقين الحدودي السوداني العميد عاطف حامد، تسهيل إجراءات سفر المبعدين لوجهاتهم بالولايات المختلفة، بينما سيتم إرجاع الجنسيات الأخرى، بحسب المنصة.
بدوره لفت رئيس مبادرة الأشقاء الطوعية المصرية السودانية عادل علي محجوب إبراهيم إلى التنامي الملحوظ لظاهرة الهجرة غير الشرعية (التهريب) في الآونة الأخيرة، علماً أنها باتت نشاطاً عالمياً معروفاً يلجأ إليه الناس عندما تضيق بهم الأحوال، مما عرض كثيرين للهلاك بسبب ارتفاع درجة الحرارة والعطش على الطريق الصحراوي القاحل.
نبه إبراهيم كل السودانيين بعدم اللجوء للسفر إلى مصر عبر التهريب لأن ذلك يضع الشخص منذ البداية في مخالفة قانونية بوصفه مهاجراً غير شرعي، فضلاً عن أن اللجوء للتهريب ينطوي على مخاطرة وضع الأهل أو الأسرة في أيادي أشخاص مجهولين، وليس هناك جهة يمكن اللجوء إليها لتحمي المهاجر غير الشرعي منهم لأنهم في الأساس مخالفون للقانون ويمارسون نشاطاتهم بصورة متخفية.
عدّد رئيس المبادرة الخدمات التي تقدمها في مجالات استقبال الواصلين إلى مصر وعونهم بخاصة في مجالات تسهيلات الدراسة والتعليم إذ رفعت عدد المدارس في أسوان من واحدة إلى ثلاث، إلى جانب رعايتها للأسر الضعيفة لا سيما تلك التي تعولها نساء، مع تقديم تسهيلات كبيرة في مجال الرعاية الصحية ولأصحاب الأمراض المزمنة وذوي الاحتياجات الخاصة على وجه التحديد، إلى جانب تنظيم دورات تدريبية وتأهيلية بالتعاون والتنسيق مع الجهات الرسمية والمحلية.
كما أوضح إبراهيم أن المبادرة تضم طيفاً من المجتمعين السوداني والمصري الذي يقوده النائب البرلماني سيد عبدالصبور، وتركز خدماتها على مختلف الجوانب الإنسانية عبر لجانها وفرقها المتخصصة في المجالات المختلفة بما فيها العون القانوني.
في السياق نفسه أطلق ناشطون سودانيون في أسوان صيحات يحثون فيها على عدم السفر من السودان إلى مصر عبر التهريب في الأقل في هذه الفترة التي تشهد موجة حر شديدة وقاتلة.
يضيف منشورٌ للناشطين على مواقع التواصل، ” ندفن هذه الأيام كل يوم أسراً كاملة يوصلهم سائقو التهريب إما جثثاً أو في حالات صحية متأخرة بسبب العطش أو ضربات الشمس والجفاف، في وقت لا يمكن فيه إسعافه داخل المستشفيات الحكومية نظراً إلى دخوله غير الشرعي المخالف للقوانين إلى جانب أخطار الاستغلال واللصوص في المناطق الخلوية قبل الوصول إلى مدينة أسوان”.
شهادات صادمة
على رغم تحفظ بعض من وصلوا إلى الأراضي المصرية عبر التهريب في التحدث لـ”اندبندنت عربية” بأسمائهم الحقيقية، لكنهم قدموا شهادات صادمة كشفوا فيها قصصاً مأسوية وحوادث قاسية ومؤلمة تجسدها مشاهدة عشرات الجثث، بعضها لأطفال مبعثرين في الصحراء، توفي أصحابها بسبب الحوادث أو تعطل شاحنات التهريب أو العطش وضربات الشمس.
كما تكشف شهادات الناجين من أسر بعض المتوفين عن آخرين بخلاف الذين دفنوا في مدافن مدينة أسوان، دفنوا وسط الجبال بينهم أسر وأطفال وشباب ماتوا خلال رحلة التهريب إلى جانب عشرات الجثامين الأخرى الملقاة في الصحراء.
يقول محمد السوداني الذي فقد والدته على طريق الموت ودفنها مع آخرين بمساعدة مبادرة الأشقاء الطوعية في مقابر (الجوزيرة) بأسوان “دفنت خلال فترة وجيزة مع المتطوعين في المبادرة نحو 116 جثماناً كلهم ماتوا في طريق التهريب ولا تزال هناك جثث أخرى في المشارح”، وفق قوله.
يحذر السوداني في حديث مصور لـ”اندبندنت عربية”، “توفيت والدتي بسبب العطش على درب التهريب وأنصح أبناء بلدي بالحفاظ على حياة أهلهم وعدم المخاطرة بأرواح ذويهم على هذا الطريق”.
كما تحدثت لنا ناجية قادمة من ولاية الجزيرة فقدت والدتها بالعطش في الصحراء أثناء رحلة التهريب، عن مدى قساوة المهربين ومشاق عبور الصحراء وأهواله بالنسبة إلى الأطفال والمسنين خاصة.
حكايات لا تنتهي
أما أحمد يوسف الذي وصل إلى أسوان مع أسرته الصغيرة عبر مسار مدينة أبوحمد شمال السودان فيقول، “قررت ارتياد المغامرة واخترت هذا المسار لأنه الأقرب نحو 38 ساعة في حال لم تظهر أطواف حرس الحدود، وكان أملي كبيراً في النجاة والوصول بسلام، على رغم ما سمعته من أخطار التهريب على هذا الطريق الصحراوي، لكن ما دفعني لركوب هذا الطريق الخطر هو صعوبة الحصول على تأشيرة دخول إلى مصر”.
حزم يوسف وأسرته حقيبتين متوسطتين بما فيها لوازم السفر عبر التهريب، مثل الكمامات والملافح للحماية من الغبار وحافظة ماء كبيرة للشرب وطعام يكفي لمسير يومين أو ثلاثة على أسوأ الافتراضات وفق نصائح ممن حالفهم الحظ في اجتياز هذه الرحلة.
لا يخفي يوسف توتره وقلقه الشديدين منذ لحظات التحرك الأولى حيث توجهت السيارة عبر طريق خلوي، وكلما توغلت العربة نحو عمق الصحراء يشتد القلق والخوف على رغم تطمينات المهربين.
يستطرد يوسف الذي كان شاهد عيان على تفاصيل الرحلة، “بعد أكثر من ثماني ساعات من الزحف في الطريق الصحراوي المقفر الخالي من أي أثر للحياة، تركنا المهربون في العراء نفترش قطعة من البلاستيك تحاشياً للدغات العقارب المنتشرة بكثرة في المكان، وأمضيت الليلة كلها أراقب أطفالي وهم نائمون خوفاً من الزواحف السامة، وفي الصباح عاد بقية طاقم المهربين ومعهم عربة أخرى لإكمال الرحلة.
مضى يتابع سرده، “لكن وقبل بزوغ الفجر التالي بقليل، كنا وصلنا المنطقة المعروفة بـ(التخزينة)، إذ أمضينا ليلتين في العراء وسط أجواء ملتهبة الحرارة ومخيفة ومرعبة، ومع بزوغ الفجر الثالث أشير إلينا بتجهيز أنفسنا لمواجهة ظروف أكثر قسوة متوقعة خلال الجزء الأخير من الرحلة بالتوجه مباشرة لعبور الحدود المصرية.
التخزينة القاتلة
يطلق المهربون مصطلح (التخزينة) على مكان يقع وسط الجبال على مشارف الخط الحدودي حيث يتم إخفاء المسافرين (تخزينهم) إلى حين انجلاء خطر عمليات تمشيط دورية حرس الحدود التي قد تستمر أحياناً لمدة خمسة أيام وسط الجبال في انتظار انجلاء الخطر، وقد يستغرق الإخفاء وقتاً أطول بحسب تقييم الوضع الأمني.
بعد انتهاء الخطر والخروج من (التخزينة) وهي المنطقة الحرجة التي تبدأ بعدها المرحلة الأقصر لكنها الحاسمة والأشد رعباً في الوقت نفسه، هنا يتلو المهربون على الركاب لائحة سفر جديدة، وينصحونهم في التشبث بالعربة بأقصى ما يمكن، إذ لامجال للتوقف لمساعدة أو التقاط من يسقط أثناء الطريق.
خشية العواقب الوخيمة بالوقوع في قبضة دوريات حرس الحدود، تنطلق الشاحنات في جنح الظلام، في سباق رهيب مع الزمن وبسرعة جنونية مخيفة وسط مطبات مهولة وغبار كثيف يحجبان الرؤية كلياً، بهدف عبور هذه المنطقة الخطرة بالنسبة إليهم، ويستمر هذا الوضع ساعات طويلة من الصباح وحتى المساء مع احتمال التعرض للمطاردة وإطلاق النار في أية لحظة بواسطة دوريات حرس الحدود المصرية.
لذلك يتم في هذه المرحلة تقييد جميع المسافرين بالحبال بصورة محكمة إلى صندوق وأطراف السيارة ووضع الأطفال والنساء وسط صحن العربة، قبل أن تنطلق مسرعة من دون توقف.
دوافع وتجارب
تجربة أخرى أكثر بؤساً وتشبعاً بالمآسي مسرحها رحلة كانت قد تحركت من مسار مدينة عطبرة، يروي تفاصيلها المروعة أحد الناجين وشاهد العيان (أ. ك. ع)، مؤكداً أن دافعه الأساس في ارتياد المغامرة بالسفر عبر التهريب هو البحث عن الأمان، على رغم حوادث الموت التي سمع عنها، لكن لم يكن أمامه سوى التشبث ببعض الأمل من خلال الإشارات التي وصلته من الذين وصلوا بالفعل وتمكنوا من توفيق أوضاعهم في مصر.
يتابع، “كان واضحاً منذ البداية مدى جشع سماسرة ووسطاء مركبات التهريب بطلبهم مبالغ كبيرة لجمعنا مع المهربين والحجز للسفر في أقرب رحلة، وبعد إتمام الاتفاق ودفع المال المحدد تتحرك الشاحنات في أجواء عادية عبر الطريق الرابط بين مدينتي عطبرة وهيا، بعد ساعات قليلة تظهر ملامح الصحراء وتتزايد سرعة السيارات بصورة مثيرة للرعب وسط غبار كثيف يعمي العيون ويتسلل إلى الرئتين على رغم ارتداء الكمامات والنظارات”.
يواصل المتحدث نفسه، “كلما توغلنا في عمق الصحراء ازدادت قسوة السفر وظهرت شراسة المهربين والمتعاونين معهم من أصحاب المقاهي العشوائية وجشعهم، وفي منطقة تسمى (الرتق) حيث التوجه منها إلى منطقة الكسارات، تبلغ المعاناة وعمليات الاحتيال والابتزاز ذروتها، فقد بدأ المهربون في ابتزاز الركاب بطلب مبالغ إضافية تحت تهديد التخلي عنك وسط الصحراء في حال لم ينصاعوا لطلباتهم، إلى جانب بيع مأكولات تافهة ب10 أضعاف سعرها للمسافرين”.
محرقة العطش
يواصل الشاهد روايته، “قبل الفجر تحركت السيارة وهي تشق طريقاً رملياً مرصعاً بالحصى والصخور من دون تحوطات كافية من مياه الشرب كانت كفيلة بإنقاذ الأرواح عند الحاجة، فالمهربون يحملون مسؤولية الغذاء ومياه الشرب للركاب، ويكتفون فقط بحمل كميات المياه التي تكفي لطاقم السيارة وهم السائق ومعاونه”.
مع طلوع الشمس بدأت درجات الحرارة ترتفع تدرجاً لتصل مستويات غير محتملة وقاتلة وبينما تشق السيارات رمال الصحراء بسرعة جنونية، يستنجد الركاب بالمهربين لمنحهم بعض الماء من دون جدوى، واستمرت الحال على هذا النحو حتى وصلنا منطقة (التخزينة)، لكن ولسوء الطالع بحسب شاهد العيان تقرر الانتظار وطالت أيامه من دون ماء، ودخل الناس في حال من الهلع، بخاصة بعدما بدأ الضعفاء من الأطفال وكبار السن من الركاب يتساقطون من الجفاف وضربات الشمس، كانت أولى الضحايا طفلة في عمر السنتين وبسبب الصدمة دخلت والدتها في غيبوبة لتلحق بطفلتها قبل نهاية الرحلة، كذلك لحق بهما شيخ كبير مريض بالسكري”.
يواصل، “اعتذر المهربون عن عدم وجود مياه لشرب الركاب بعدما نفد الماء الشحيح الخاص بهم، وعلى رغم توالي سقوط الضحايا انطلقت الشاحنة بما فيها من جثث في طريقها إلى أسوان، أما الأحياء من المسافرين فكان معظمهم في حال من الوهن والإعياء التام، بينما يحوم شبح الموت فوق رؤوس المرضى والأطفال وكبار السن، وبالفعل وقبل الوصول انطلقت صرخة باكية من إحدى النساء تنعي والدتها المسنة التي لفظت آخر أنفاسها على ظهر العربة عند مشارف مدينة أسوان.
نماذج مروعة
نموذج آخر من الحوادث المأسوية تسبب فيه تعطل شاحنات التهريب وسط الصحراء لأكثر من ثلاثة أيام فقد فيه الأب “ن. أ. ب” أسرته الصغيرة (زوجته وطفليه دون سن السابعة) بسبب العطش والجفاف، بينما كان هو يجثو مذهولاً من هول الصدمة ويصرخ بصورة هيستيرية (أسرتي تموت، أولادي وزوجتي يموتون) أملاً في الإنقاذ، وفي اليوم الرابع مرت سيارة أخرى عابرة في طريقها إلى الأراضي السودانية ووفرت لهم بعض الماء لكن كان الأوان قد فات على سبعة مسافرين يمثلون نصف عدد ركاب السيارة، ماتوا من العطش.
وأكد “ص. ي” الموجود في أسوان، أنه فقد اثنين من أفراد أسرته القادمة من ولاية النيل الأبيض (أم وابنها) في الرحلة نفسها بالأسباب ذاتها، بينما نجا وعمه، مضيفاً، “كنا في ذهول ووجوم من هول المأساة ونحن نرى عدداً من الركاب وهم يتساقطون أمام أعيننا ونحن عاجزون عن تقديم أية مساعدة”.
من هم المهربون؟
على رغم إجماع الركاب المسافرين عبر التهريب بأن المهربين هم من كبار المنقبين أو تابعين لهم، وهمهم كسب المال واستغلال ظروف طالبي الوصول إلى مصر من دون أي اعتبارات إنسانية، فإن “ع. أ. ح” الذي يعمل في مجال التهريب من منطقة أبوحمد، يتهم المسافرين أنفسهم بأنهم هم من يغرون أصحاب المركبات ويدفعونهم إلى السفر، وهم الذين يبحثون عن المهرب الذي يعبر بهم إلى داخل الأراضي المصرية.
يضيف، “كان مهربو البشر في الأصل ينقلون المعدنين التقليديين من وإلى مناطق تعدين الذهب وتوفير حاجاتهم من مياه وخلافه كنوع من التجارة التي تدر دخلاً غير قليل، لكن بعد الحرب ونتيجة لقرب تلك المناطق من الحدود المصرية، أغرت المبالغ الطائلة التي يدفعها الركاب كثيراً من المعدنين أنفسهم بما يمتلكون من سيارات مؤهلة للسفر إلى الدخول في هذا النشاط بكثافة”.
تنصل من المسؤولية
بسؤالنا له عن كيفية تفادي ملاحقة السلطات لهم في ممارستهم لهذا النوع من الأنشطة غير المشروعة والمحرمة محلياً ودولياً، أوضح المهرب أن السلطات المحلية كانت تعلم بنشاط تلك الشاحنات وحركتها في مجال خدمة مناطق التعدين التقليدي، لكنها بدأت في الفترة الأخيرة التضييق على نشاط التهريب، بخاصة بعدما توسعت الظاهرة بعد اندلاع الحرب، وأصبحت عملية مربحة على رغم أخطارها على المهربين أنفسهم، وبعدما كان التهريب نشاطاً محدوداً مع بدايات الحرب، شهد فجأة انتعاشاً كبيراً جذب إليه مزيداً من المسافرين والمهربين معاً.
وعن مسؤولية الحوادث والوفيات المتكررة، نفى الرجل تحمل المهربين أية مسؤولية عما يحدث في الطريق من وفيات لأي من الأسباب، متعللاً بإخلاء مسؤوليتهم مسبقاً بإخطار المسافرين وتحذيرهم مراراً بأخطار الرحلة وما قد يحدث من مفاجآت غير سارة في الطريق، كما على كل راكب أن يؤمن مأكله ومشربه خلال الرحلة.
تشرد وعصابات
يبلغ طول الحدود المصرية السودانية حيث بدأت تنشط عصابات تهريب البشر في الآونة الأخيرة، أكثر من 1200 كيلومتر نحو 793 ميلاً، وتعبر الحدود منطقة ذات كثافة سكانية منخفضة من الصحراء الكبرى والليبية، مع وجود بعض المراكز السكانية الرئيسة حول مجرى نهر النيل الممتد عبر حدود البلدين.
وبحسب إحصاءات لوكالات أممية ومنظمات دولية شردت الحرب بين الجيش وقوات “الدعم السريع”، المندلعة منذ منتصف أبريل 2023، نحو 12.9 مليون شخص، منهم ما يزيد على 11 مليوناً بالداخل ونحو 1.8 مليون فروا إلى دول الجوار في مصر وتشاد وجنوب السودان وإثيوبيا، كما تتوقع الإحصاءات أن يتجاوز عدد من هم في حاجة للمساعدات أكثر من 30 مليون مواطن، في ظل تحذيرات أممية من شبح مجاعة كارثية يلوح في الأفق مع دخول فصل الخريف.